فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر} وهو المسكر المتخذ من عصير العنب أو كل ما يخامر العقل ويغطيه من الأشربة.
وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما {والميسر} وهو القمار وعدوا منه اللعب بالجوز والكعاب {والأنصاب} وهي الأصنام المنصوبة للعبادة، وفرق بعضهم بين الأنصاب والأصنام بأن الأنصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها، والأصنام ما صور وعبد من دون الله عز وجل: {والأزلام} وهي القداح وقد تقدم الكلام في ذلك على أتم وجه {رِجْسٌ} أي قذر تعاف عنه العقول، وعن الزجاج الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح.
وأصل معناه الصوت الشديد ولذا يقال للغمام رجاس لرعده والرجز بمعناه عند بعضهم.
وفرق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر والرجز العذاب والركس العذرة والنتن، وإفراد الرجس مع أنه خبر عن متعدد لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير، ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وقيل: لأنه خبر عن الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور.
وقيل: لأن في الكلام مضافًا إلى تلك الأشياء وهو خبر عنه أي إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس.
وقوله سبحانه: {مِنْ عَمَلِ الشيطان} في موضع الرفع على أنه صفة {رِجْسٌ} أي كائن من عمله لأنه مسبب من تزيينه وتسويله، وقيل: إن من للابتداء أي ناشيء من عمله.
وعلى التقديرين لا ضير في جعل ذلك من العمل وإن كان ما ذكر من الأعيان.
ودعوى أنه إذا قدر المضاف لم يحتج إلى ملاحظة علاقة السببية ولا إلى القول بأن من ابتدائية لا يخلو عن نظر {فاجتنبوه} أي الرجس أو جميع ما مر بتأويل ما مر أو التعاطي المقدر أو الشيطان {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي راجين فلاحكم أو لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مر الكلام في ذلك، ولقد أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بأنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجسًا من عمل الشيطان تنبيهًا على غاية قبحهما وأمر بالاجتناب عن عينهما بناء على بعض الوجوه وجعله سببًا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}.
استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله ليُنْظَم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق، وهو قوله: {ولا تعتدوا} [المائدة: 87] المشير إلى أنّ الله، كما نَهى عن تَحريم المباح، نهَى عن استحلال الحرام وأنّ الله لمّا أحلّ الطيّبات حرّم الخبائث المفضية إلى مفاسد، فإنّ الخمر كان طيّبًا عند الناس، وقد قال الله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا} [النحل: 67].
والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه.
فكانت هذه الآية كالاحتراس عمّا قد يُساء تأويله من قوله: {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [الأنعام: 87].
وقد تقدّم في سورة البقرة أنّ المعوّل عليه من أقوال علمائنا أنّ النهي عن الخمر وقع مدرّجًا ثلاث مرات: الأولى حين نزلت آية {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، وذلك يتضمّن نهيًا غير جازم، فتَرك شرب الخمر ناس كانوا أشدّ تقوى.
فقال عمر: اللّهمّ بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا.
ثم نزلت آية سورة [النساء: 43] {يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتّى تعلموا ما تقولون}، فتجنّب المسلمون شربها في الأوقات التي يظنّ بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة؛ فقال عمر: اللّهم بيِّن لنا في الخمر بَيَانًا شافيًا.
ثم نزلت الآية هذه.
فقال عمر: انتهينا.
والمشهور أنّ الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحُد، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا.
وروي أنّ هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرَت بين سعد بن أبي وقاص ورجلٍ من الأنصار.
روى مسلم عن سعد بن أبي وقّاص قال: أتيتُ على نفر من الأنصار، فقالوا: تعالَ نطعِمْك ونُسقك خمرًا وذلك قبل أن تحرّم الخمر فأتيتهم في حُشّ، وإذا رأسُ جَزور مشوي وزقّ من خمر، فأكلت وشربت معهم، فذكرتُ الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلتُ: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَ جَمَل فضربني به فجَرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته، فأنزل الله تعالى فِيّ: {إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}.
وروى أبو داود عن ابن عبّاس قال: {يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] و{يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس} [البقرة: 219] نسختهما في المائدة {إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان}.
فلا جرم كان هذا التحريم بمحلّ العناية من الشارع متقدّمًا للأمّة في إيضاح أسبابه رفقًا بهم واستئناسًا لأنفسهم، فابتدأهم بآية سورة البقرة، ولم يسفّههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك، بل أنبأهم بعذرهم في قوله: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}[البقرة: 219]، ثم بآية سورة النساء، ثم كرّ عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنّهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله: {لعلّكم تفلحون}، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله: {إنّما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء}.
ثم قال: {فهل أنتم منتهون}، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بيَّن له المتكلّم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه.
وصيغة: هل أنت فاعل كذا.
تستعمل للحثّ على فعل في مقام الاستبطاء، نبّه عليه في الكشاف عند قوله تعالى: {وقيل للنّاس هَلْ أنتم مُجتمعون} في سورة [الشعراء: 39]، قال: ومنه قول تأبّط شرًّا:
هل أنتَ باعثُ دينار لحاجتنا ** أو عَبْدِ ربّ أخَا عَوْننِ بننِ مِخْرَاقِ

«دينار» اسم رجل، وكذا عبد ربّ.
وقوله: أخا عون أو عوف نداء، أي يا أخا عون.
فتحريم الخمر متقرّر قبل نزول هذه السورة، فإنّ وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان، فكان ممّا أوصاهم به رسول الله أن لا ينتبذوا في الحَنتم والنقير والمُزَفَّت والدّبَّاءِ، لأنَّها يسرع الاختمار إلى نبيذها.
والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب.
والمراد بالأزلام الاستقسام بها، لأنّ عطفها على الميسر يقتضي أنّها أزلام غير الميسر.
قال في الكشاف: ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر.
وتقدّم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى: {وما ذُبح على النّصُب} [المائدة: 3]، والكلام على الأزلام عند قوله: {وأن تستقسموا بالأزلام} في أول هذه السورة [3].
وأكّد في هذه الآية تحريم ما ذُبح على النُصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أوّل السورة والمقرّر في الإسلام من أوّل البعثة.
والمرادُ بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها، كلّ بما يُتعاطى به من شُرْب ولعب وذَبح واستِقسام.
والقصرُ المستفاد من {إنّما} قصرُ موصوف على صفة، أي أنّ هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتّصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره، وهو ادّعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة.
ألا ترى أنّ الله قال في سورة [البقرة: 219] في الخمر والميسر {قل فيهما إثم كبير ومَنَافع للناس}، فأثبت لهما الإثم، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة، لأنّ الإثم يقتضي التباعد عن التلبّس بهما مثل الرجس.
وأثبت لهما المنفعة، وهي صفة تساوي نقيض الرجس، في نظر الشريعة، لأنّ المنفعة تستلزم حرصَ الناس على تعاطيهما، فصحّ أنّ للخمر والميسر صفتين.
وقد قُصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس، فما هو إلاّ قَصْر ادّعائي يشير إلى ما في سورة [البقرة: 219] من قوله: {وإثمُهما أكبر من نفعهما}، فإنّه لمّا نبّهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبّهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قُبالة ما فيهما من الإثم حتّى كأنّهما تمحّضا للاتّصاف بـ{فيهما إثم} [البقرة: 219]، فصحّ في سورة المائدة أن يقال في حقّهما ما يفيد انحصارهما في أنّهما فيهما إثم، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله: {إنْ حسابُهم إلاّ على رَبِّي} [الشعراء: 113]، أي حسابهم مقصور على الاتّصاف بكونه على ربّي، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف.
وذلك هو ما عبّر عنه بعبارة الرجس.
والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة، ويطلق على المذمّات الباطنة كما في قوله: {وأمّا الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125]، وقوله: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} [الأحزاب: 33].
والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبارِ الشريعة.
وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر، فأفاد المبالغة في الاتّصاف به حتّى كأنّ هذا الموصوف عين الرجس.
ولذلك أيضًا أفرد «رجس» مع كونه خبرًا عن متعدّد لأنّه كالخبر بالمصدر.
ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيَها بما تُتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها، فكأنّه هو الذي عملها وتعاطاها، وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنّه يعمل عمل الشيطان، فهو شيطان، وذلك ممّا تأباه النفوس.
والفاء في {فاجتنبوه} للتفريع وقد ظهر حُسن موقع هذا التفريع بعد التقدّم بما يوجب النفرة منها.
والضمير المنصوب في قوله: {فاجتنبوه} عائد إلى الرجس الجامع للأربعة.
و{لعلّكم تفلحون} رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم يكونوا قد استمرّوا على غيرها من المنهيات.
وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى: {يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} [البقرة: 21].
وقد بيّنت ما اخترته في محل «لعلّ» وهو المطّرد في جميع مواقعها، وأمّا المحامل التي تأوّلوا بها «لعلّ» في آية سورة البقرة فبعضها لا يتأتّى في هذه الآية فتأمّلْه.
واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبّس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها؛ فاجتناب الخمر اجتناب شربها؛ والميسر اجتناب التقامر به، والأنصاب اجتناب الذبح عليها؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها.
ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسّها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه، أو لمعرفة صورها، أو حفظها كآثار من التاريخ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لِمن عَصَر العنب لاتّخاذه خلًا، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه.